سورة آل عمران - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


قرأ الحسن، وعمرو بن عبيد، وعاصم بن أبي النجود، وأبو جعفر الرواسي {الم الله} بقطع ألف الوصل على تقدير الوقف على {الم} كما يقدرون الوقف على أسماء الأعداد نحو واحد اثنان ثلاثة أربعة مع وصلهم. قال الأخفش: ويجوز {الم الله} بكسر الهمزة لالتقاء الساكنين. قال الزجاج: هذا خطأ، ولا تقوله العرب لثقله.
وقد ذكر سيبويه في الكتاب أن فواتح السور التي لم تكن موازنة لمفرد طريق التلفظ بها الحكاية فقط ساكنة الأعجاز على الوقف، سواء جعلت أسماء، أو مسرودة على نمط التعديد، وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر في باب الوقف، فحق هذه الفاتحة أن يوقف عليها، ثم يبدأ بما بعدها، كما فعله الحسن، ومن معه في قراءتهم المحكية سابقاً. وأما فتح الميم على القراءة المشهورة، فوجهه ما روى عن سيبويه أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين.
وقال الكسائي: حروف التهجي إذا لقيتها ألف وصل، فحذفت الألف، وحركت الميم بحركة الألف، وكذا قال الفراء. وهذه الفواتح إن جعلت مسرودة على نمط التعديد، فلا محل لها من الإعراب، وإن جعلت أسماء للسورة، فمحلها إما الرفع على أنها أخبار لمبتدآت مقدرة قبلها، أو النصب على تقدير أفعال يقتضيها المقام كاذكر، أو اقرأ، أو نحوهما، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة ما يغني عن الإعادة.
وقوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} مبتدأ، وخبر، والجملة مستأنفة، أي: هو المستحق للعبودية. و{الحيّ القيوم}: خبران آخران للاسم الشريف، أو خبران لمبتدأ محذوف، أي: هو الحي القيوم، وقيل: إنهما صفتان للمبتدإ الأول، أو بدلان منه، أو من الخبر، وقد تقدّم تفسير الحيّ والقيوم. وقرأ جماعة من الصحابة {القيام} عمر، وأبيّ بن كعب، وابن مسعود. قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} أي: القرآن، وقدم الظرف على المفعول به للاعتناء بالمنزل عليه صلى الله عليه وسلم وهي: إما جملة مستأنفة، أو خبر آخر للمبتدأ الأوّل. قوله: {بالحق} أي: بالصدق، وقيل: بالحجة الغالبة، وهو في محل نصب على الحال. وقوله: {مُصَدّقاً} حال آخر من الكتاب مؤكدة؛ لأنه لا يكون إلا مصدقاً، فلا تكون الحال منتقلة أصلاً، وبهذا قال الجمهور، وجوّز بعضهم الانتقال على معنى أنه مصدق لنفسه ولغيره. وقوله: {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: من الكتب المنزلة، وهو متعلق بقوله: {مصدقاً} واللام للتقوية. قوله: {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} هذه الجملة في حكم البيان لقوله: لما بين يديه. وإنما قال هنا {أنزل} وفيما تقدّم {نزّل}: لأن القرآن نزل منجماً، والكتابان نزلا دفعة واحدة، ولم يذكر في الكتابين من أنزلا عليه، وذكر فيما تقدّم أن الكتاب نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن القصد هنا ليس إلا إلى ذكر الكتابين لا ذكر من نزلا عليه.
وقوله: {مِن قَبْلُ} أي: أنزل التوراة، والإنجيل من قبل تنزيل الكتاب. وقوله: {هُدًى لّلنَّاسِ} إما حال من الكتابين، أو علة للإنزال. والمراد بالناس: أهل الكتابين، أو ما هو أعمّ؛ لأن هذه الأمة متعبدة بما لم ينسخ من الشرائع. قال ابن فورك: هدى للناس المتقين، كما قال في البقرة: {هدى للمتقين} [البقرة: 2]، قوله: {وَأَنزَلَ الفرقان} أي: الفارق بين الحق، والباطل، وهو القرآن، وكرر ذكره تشريفاً له مع ما يشتمل عليه هذا الذكر الآخر من الوصف له بأنه يفرق بين الحق، والباطل، وذكر التنزيل أولاً، والإنزال ثانياً لكونه جامعاً بين الوصفين، فإنه أنزل إلى سماء الدنيا جملة، ثم نزل منها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مفرّقاً منجماً على حسب الحوادث كما سبق. وقيل: أراد بالفرقان جميع الكتب المنزلة من الله تعالى على رسله، وقيل: أراد الزبور لاشتماله على المواعظ الحسنة، وقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله} أي: بما يصدق عليه أنه آية من الكتب المنزلة وغيرها، أو بما في الكتب المنزلة وغيرها أو بما في الكتب المنزلة المذكورة على وضع آيات الله موضع الضمير العائد إليها، وفيه بيان الأمر الذي استحقوا به الكفر {لَهُمْ} بسبب هذا الكفر {عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي: عظيم {والله عَزِيزٌ} لا يغالبه مغالب {ذُو انتقام} عظيم، والنقمة: السطوة، يقال: انتقم منه: إذا عاقبه بسبب ذنب قد تقدّم منه.
قوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَئ فِي الأرض وَلاَ فِى السماء} هذه الجملة استئنافية لبيان سعة علمه، وإحاطته بالمعلومات، بما في الأرض والسماء، مع كونها أوسع من ذلك، لقصور عباده عن العلم بما سواهما من أمكنة مخلوقاته، وسائر معلوماته، ومن جملة ما لا يخفى عليه إيمان من آمن من خلقه، وكفر من كفر.
قوله: {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} أصل اشتقاق الصورة من صاره إلى كذا أي: أماله إليه، فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة، وأصل الرحم من الرحمة؛ لأنه مما يتراحم به، وهذه الجملة مستأنفة مشتملة على بيان إحاطة علمه، وأن من جملة معلوماته ما لا يدخل تحت الوجود، وهو: تصوير عباده في أرحام أمهاتهم من نطف آبائهم كيف يشاء من حسن، وقبيح، وأسود، وأبيض، وطويل، وقصير. و{كيف} معمول يشاء، والجملة حالية.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن جعفر بن محمد بن الزبير قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب، وعبد المسيح، والسيد، وهو الأيهم، ثم ذكروا القصة في الكلام الذي دار بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله أنزل في ذلك صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع، فذكر وفد نجران، ومخاصمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام، وأن الله أنزل: {الم * الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} قال: لما قبله من كتاب، أو رسول.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه، وقال في قوله: {وَأَنزَلَ الفرقان} هو القرآن فرق بين الحق، والباطل، فأحل فيه حلاله، وحرم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وحد فيه حدوده، وفرض فيه فرائضه، وبين فيه بيانه، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته.
وأخرج ابن جرير، عن محمد بن جعفر بن الزبير في قوله: {وَأَنزَلَ الفرقان} أي: الفصل بين الحق، والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى، وغيره، وقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} أي: إن الله ينتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها، ومعرفته بما جاء منه فيها. وفي قوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَئ فِي الأرض وَلاَ فِى السماء} أي: قد علم ما يريدون، وما يكيدون، وما يضاهون بقولهم في عيسى إذ جعلوه رباً وإلهاً، وعندهم من علمه غير ذلك غرّة بالله، وكفراً به {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} قد كان عيسى ممن صوّر في الأرحام لا يدفعون ذلك، ولا ينكرونه، كما صوّر غيره من بني آدم، فكيف يكون إلهاً، وقد كان بذلك المنزل؟! وأخرج ابن المنذر، عن ابن مسعود في قوله: {يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} قال: ذكوراً، وإناثاً.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة في قوله: {يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} قال: إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يوماً، ثم تكون علقة أربعين يوماً، ثم تكون مضغة أربعين يوماً، فإذا بلغ أن يخلق بعث الله ملكاً يصوّرها، فيأتي الملك بتراب بين أصبعيه، فيخلط منه المضغة، ثم يعجنه بها، ثم يصوّر، كما يؤمر فيقول: أذكر أم أنثى، أشقيّ أم سعيد، وما رزقه، وما عمره؟ وما أثره، وما مصائبه؟ فيقول الله، ويكتب الملك، فإذا مات ذلك الجسد دفن حيث أخذ ذلك التراب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} قال: من ذكر، وأنثى، وأحمر، وأسود، وتامّ الخلق، وغير تام الخلق.


{الكتاب} هو: القرآن، فاللام للعهد، وقدم الظرف، وهو {عليك} لما يفيده من الاختصاص. وقوله: {مِنْهُ آيات محكمات} الموافق لقواعد العربية أن يكون الظرف خبراً مقدّماً، والأولى بالمعنى أن يكون مبتدأ تقديره: من الكتاب آيات بينات، على نحو ما تقدّم في قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} [البقرة: 8] وإنما كان أولى؛ لأن المقصود انقسام الكتاب إلى القسمين المذكورين لا مجرّد الإخبار عنهما بأنهما من الكتاب، والجملة حالية في محل نصب، أو مستأنفة لا محل لها.
وقد اختلف العلماء في تفسير المحكمات، والمتشابهات على أقوال: فقيل: إن المحكم: ما عرف تأويله، وفهم معناه، وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل؛ ومن القائلين بهذا جابر بن عبد الله، والشعبي، وسفيان الثوري، قالوا: وذلك بجر الحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل: المحكم: ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً، فإذا ردّت إلى وجه واحد، وأبطل الباقي صار المتشابه محكماً، وقيل: إن المحكم ناسخه، وحرامه، وحلاله، وفرائضه، وما نؤمن به، ونعمل عليه، والمتشابه: منسوخه، وأمثاله، وأقسامه وما نؤمن به، ولا نعمل به. روى هذا عن ابن عباس، وقيل: المحكم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ، روي عن ابن مسعود، وقتادة، والربيع، والضحاك؛ وقيل: المحكم: الذي ليس فيه تصريف، ولا تحريف عما وضع له، والمتشابه: ما فيه تصريف، وتحريف، وتأويل قاله مجاهد، وابن إسحاق. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال، وقيل: المحكم: ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره، والمتشابه: ما يرجع فيه إلى غيره. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل في المحكمات، والمتشابهات. قال القرطبي ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية، وهو الجاري على وضع اللسان، وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم، والإحكام: الإتقان، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه، ولا تردّد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته، وإتقان تركيبها، ومتى اختلّ أحد الأمرين جاء التشابه، والإشكال.
وقال ابن خويز منداد: للمتشابه وجوه: ما اختلف فيه العلماء: أيّ الآيتين نسخت الأخرى، كما في الحامل المتوفى عنها زوجها، فإن من الصحابة من قال: إن آية وضع الحمل نسخت آية الأربعة الأشهر، والعشر، ومنهم من قال بالعكس. وكاختلافهم في الوصية للوارث، وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ، ولم توجد شرائطه، وكتعارض الأخبار، وتعارض الأقيسة، هذا معنى كلامه.
والأولى أن يقال: إن المحكم هو: الواضح المعنى الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه، أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه، أو لا تظهر دلالته لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره. وإذا عرفت هذا عرفت أن هذا الاختلاف الذي قدّمناه ليس كما ينبغي، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته، وعرفوا المتشابه بما يقابلها.
وبيان ذلك أن أهل القول الأول جعلوا المحكم ما وجد إلى علمه سبيل، والمتشابه ما لا سبيل إلى علمه، ولا شك أن مفهوم المحكم، والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه، فإن مجرد الخفاء، أو عدم الظهور، أو الإحتمال، أو التردّد يوجب التشابه؛ وأهل القول الثاني: خصوا المحكم بما ليس فيه احتمال، والمتشابه بما فيه احتمال، ولا شك أن هذا بعض أوصاف المحكم، والمتشابه لا كلها، وهكذا أهل القول الثالث، فإنهم خصوا كل واحد من القسمين بتلك الأوصاف المعينة دون غيرها؛ وأهل القول الرابع خصوا كل واحد منهما ببعض الأوصاف التي ذكرها أهل القول الثالث، والأمر أوسع مما قالوه جميعاً، وأهل القول الخامس خصوا المحكم بوصف عدم التصريف، والتحريف، وجعلوا المتشابه مقابله، وأهملوا ما هو أهمّ من ذلك مما لا سبيل إلى علمه من دون تصريف، وتحريف كفواتح السور المقطعة، وأهل القول السادس خصوا المحكم بما يقوم بنفسه، والمتشابه بما لا يقوم بها، وأن هذا هو بعض أوصافهما، وصاحب القول السابع، وهو ابن خويز منداد عمد إلى صورة الوفاق، فجعلها محكماً، وإلى صورة الخلاف، والتعارض، فجعلها متشابهاً، فأهمل ما هو أخص أوصاف كل واحد منهما من كونه باعتبار نفسه مفهوم المعنى، أو غير مفهوم.
قوله: {هُنَّ أُمُّ الكتاب} أي: أصله الذي يعتمد عليه، ويردّ ما خالفه إليه، وهذه الجملة صفة لما قبلها. قوله: {وَأُخَرُ متشابهات} وصف لمحذوف مقدر، أي: وآيات أخر متشابهات، وهي جمع أخرى، وإنما لم ينصرف؛ لأنه عدل بها عن الآخر؛ لأن أصلها أن يكون كذلك.
وقال أبو عبيد: لم ينصرف؛ لأن واحدها لا ينصرف في معرفة، ولا نكرة، وأنكر ذلك المبرّد.
وقال الكسائي: لم تنصرف؛ لأنها صفة، وأنكره أيضاً المبرّد.
وقال سيبويه: لا يجوز أن يكون {أخر} معدولة عن الألف، واللام؛ لأنها لو كانت معدولة عنها لكان معرفة، ألا ترى أن سحر معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة. قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الزيغ: الميل: ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار؛ ويقال: زاغ يزيغ زيغاً: إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] وهذه الآية تعمّ كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق. وسبب النزول نصارى نجران، كما تقدّم، وسيأتي.
قوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ} أي: يتعلقون بالمتشابه من الكتاب، فيشككون به على المؤمنين، ويجعلونه دليلاً على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق، كما تجده في كل طائفة من طوائف البدعة، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعباً شديداً، ويوردون منه لتنفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء.
قوله: {ابتغاء الفتنة} أي: طلباً منهم لفتنة الناس في دينهم، والتلبيس عليهم، وإفساد ذات بينهم {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} أي: طلباً لتأويله على الوجه الذي يريدونه، ويوافق مذاهبهم الفاسدة. قال الزجاج: معنى ابتغائهم تأويله: أنهم طلبوا تأويل بعثهم، وإحيائهم، فأعلم الله عز وجلّ أن تأويل ذلك، ووقته لا يعلمه إلا الله. قال: والدليل على ذلك قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] أي: يوم يرون ما يوعدون من البعث، والنشور، والعذاب {يَقُولُ الذين نَسُوهُ} [الأعراف: 53] أي تركوه {قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق} [الأعراف: 53] أي: قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} التأويل يكون بمعنى التفسير، كقولهم: تأويل هذه الكلمة على كذا، أي: تفسيرها، ويكون بمعنى ما يئول الأمر إليه، واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يئول إليه، أي: صار، وأوّلته تأويلاً، أي: صيرته، وهذه الجملة حالية، أي: يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله، والحال أن ما يعلم تأويله إلا الله.
وقد اختلف أهل العلم في قوله: {والرسخون فِي العلم} هل هو كلام مقطوع، عما قبله، أو معطوف على ما قبله؟ فتكون الواو للجمع، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع عما قبله، وأن الكلام تمّ عند قوله: {إِلاَّ الله} هذا قول ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وأبي الشعثاء، وأبي نهيك، وغيرهم، وهو مذهب الكسائي، والفراء، والأخفش، وأبي عبيد، وحكاه ابن جرير الطبري، عن مالك، واختاره، وحكاه الخطابي، عن ابن مسعود، وأبيّ بن كعب قال: وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخين على ما قبله، وزعم أنهم يعلمونه، قال: واحتج له بعض أهل اللغة، فقال: معناه: والراسخون في العلم يعلمونه قائلين {آمنا به} وزعم أن موضع {يَقُولُونَ} نصب على الحال، وعامة أهل اللغة ينكرونه، ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تضمر الفعل، والمفعول معاً، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر فعل لم يكن حالاً، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال: عبْد الله راكباً، يعني: أقبل عبد الله راكباً، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله: عبد الله يتكلم يصلح بين الناس، فكان يصلح حالاً كقول الشاعر: أنشدنيه أبو عمرو. قال: أنشدنا أبو العباس ثعلب:
أرسَلْتُ فِيها رَجلاً لَكُالِكا *** يَقْصُر يَمْشِي وَيَطول بَارِكاً
فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده. وأيضاً، فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئاً عن الخلق، وينسبه لنفسه، فيكون له في ذلك شريك، ألا ترى قوله عزّ وجلّ: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [النمل: 65]، وقوله: {لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187]، وقوله: {كُلُّ شَئ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}
[القصص: 88] فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه به لا يشركه فيه غيره، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} ولو كانت الواو في قوله: {والرسخون} للنسق لم يكن لقوله: {كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} فائدة. انتهى. قال القرطبي: ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره. فقد روي عن ابن عباس: أن الراسخين معطوف على اسم الله عزّ وجلّ، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به. وقاله الربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير، والقاسم بن محمد، وغيرهم، و{يَقُولُونَ} على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخون كما قال:
الرِيحُ يَبْكِي شَجْوه *** والبرقُ يَلْمَعُ في الغَمَامَهْ
وهذا البيت يحتمل المعنيين، فيجوز أن يكون، و{البرق} مبتدأ، والخبر {يلمع} على التأويل الأوّل، فيكون مقطوعاً مما قبله، ويجوز أن يكون معطوفاً على الريح، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي: لامعاً. انتهى. ولا يخفاك أن ما قاله الخطابي في وجه امتناع كون قوله: {يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} حالاً مع أن العرب لا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل إلى آخر كلامه لا يتم إلا على فرض أنه لا فعل هنا، وليس الأمر كذلك، فالفعل مذكور، وهو قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} ولكنه جاء الحال من المعطوف، وهو قوله: {والرسخون} دون المعطوف عليه، وهو قوله: {إِلاَّ الله} وذلك جائز في اللغة العربية.
وقد جاء مثله في الكتاب العزيز. ومنه قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء المهاجرين الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن ديارهم} [الحشر: 8] إلى قوله: {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا} الآية [الحشر: 10]، وكقوله: {وَجَاء رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] أي: وجاءت الملائكة صفا صفا، ولكن ها هنا مانع آخر من جعل ذلك حالاً، وهو أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين آمنا به ليس بصحيح، فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الإسم الشريف يعلمونه في كل حال من الأحوال لا في هذه الحالة الخاصة، فاقتضى هذا أن جعل قوله: {يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} حالاً غير صحيح، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قوله: {والرسخون فِي العلم} مبتدأ خبره {يَقُولُونَ} ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف أن الله سبحانه وصفهم بالرسوخ في العلم، فكيف يمدحهم، وهم لا يعلمون ذلك؟ ويجاب عن هذا: بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به، ولا جعل لخلقه إلى علمه سبيلاً هو من رسوخهم؛ لأنهم علموا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه، وأن الذين يتبعونه هم الذين في قلوبهم زيغ، وناهيك بهذا من رسوخ. وأصل الرسوخ في لغة العرب: الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ، وأصله في الأجرام أن ترسخ الخيل، أو الشجر في الأرض، ومنه قول الشاعر:
لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْر مِنى مَوَدةٌ *** لِلَيْلى أبَتْ آياتُها أن تُغيَّرا
فهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم عن الله من ترك اتباع المتشابه، وإرجاع علمه إلى الله سبحانه. ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال: التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان: أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء، وما يئول أمره إليه، ومنه قوله: {هذا تَأْوِيلُ رؤياى} [يوسف: 100]، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] أي: حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور، وكنهها لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ، ويكون قوله: {والرسخون فِي العلم} مبتدأ، و{يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر، وهو: التفسير، والبيان، والتعبير عن الشيء، كقوله: {نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36] أي بتفسيره فالوقف على {والرسخون فِي العلم} لأنهم يعلمون، ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا، فيكون {يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} حالاً منهم، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون تأويله، وأطنب في ذلك، وهكذا جماعة من محققي المفسرين رجحوا ذلك. قال القرطبي: قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وهو: الصحيح، فإن تسميتهم راسخين تقضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع، لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم ألبتة كأمر الروح، والساعة مما استأثر الله بعلمه، وهذا لا يتعاطى علمه أحد، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه، فإنما أراد هذا النوع. وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة، فيتأول، ويعلم تأويله المستقيم، ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم. انتهى.
واعلم أن هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم، والمتشابه؛ وقد قدّمنا لك ما هو الصواب في تحقيقهما، ونزيدك ها هنا إيضاحاً، وبياناً، فنقول: إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدّمناه فواتح السور، فإنها غير متضحة المعنى، ولا ظاهرة الدلالة، لا بالنسبة إلى أنفسها؛ لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب، ويعرف عرف الشرع ما معنى آلم، آلمر، حم، طس، طسما ونحوها؛ لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب، ولا من كلام الشرع، فهي غير متضحة المعنى، لا باعتبارها نفسها، ولا باعتبار أمر آخر يفسرها، ويوضحها، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم، والألفاظ الغريبة التي لا يوجد في لغة العرب، ولا في عرف الشرع ما يوضحها، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح، وما في قوله: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} إلى الآخر الآية [لقمان: 34]، ونحو ذلك، وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره، كورود الشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر، لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار أمر آخر يرجحه. وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب، أو في عرف الشرع، أو باعتبار غيره، وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز، أو في السنة المطهرة، أو الأمور التي تعارضت دلالتها، ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب، أو السنة، أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف، فلا شك، ولا ريب أن هذه من المحكم لا من المتشابه، ومن زعم أنها من المتشابه، فقد اشتبه عليه الصواب، فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق، ومزالق وقعت للناس في هذا المقام حتى صارت كل طائفة تسمى ما دل لما ذهب إليه محكماً، وما دل على ما يذهب إليه من يخالفها متشابهاً: سيما أهل علم الكلام، ومن أنكر هذا، فعليه بمؤلفاتهم.
واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم، ولكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية بل بمعنى آخر، ومن ذلك قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته} [هود: 1] وقوله: {تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم} [يونس: 1] والمراد بالمحكم بهذا المعنى: أنه صحيح الألفاظ قويم المعاني فائق في البلاغة، والفصاحة على كل كلام. وورد أيضاً ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها بل بمعنى آخر، ومنه قوله تعالى: {كتابا متشابها} [الزمر: 23] والمراد بالمتشابه بهذا المعنى: أنه يشبه بعضه بعضاً في الصحة، والفصاحة، والحسن، والبلاغة.
وقد ذكر أهل العلم لورود المتشابه في القرآن فوائد: منها: أنه يكون في الوصول إلى الحق مع وجودها فيه مزيد صعوبة، ومشقة، وذلك يوجب مزيد الثواب للمستخرجين للحق، وهم الأئمة المجتهدون، وقد ذكر الزمخشري، والرازي، وغيرهما وجوهاً هذا أحسنها، وبقيتها لا تستحق الذكر ها هنا.
قوله: {كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} فيه ضمير مقدر عائد على مسمى المحكم، والمتشابه، أي: كله، أو المحذوف غير ضمير، أي: كل واحد منهما، وهذا من تمام المقول المذكور قبله. وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} أي: العقول الخالصة: وهم الراسخون في العلم، الواقفون عند متشابهه، العالمون بمحكمه العاملون بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية.
وقوله: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ} الخ من تمام ما يقوله الراسخون، أي: يقولون آمنا به كل من عند ربنا، ويقولون: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} قال ابن كيسان: سألوا ألا يزيغوا، فتزيغ قلوبهم نحو قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] كأنهم لما سمعوا قوله سبحانه: {وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ} قالوا: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} باتباع المتشابه: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} إلى الحق بما أذنت لنا من العمل بالآيات المحكمات، والظرف، وهو قوله: {بعد} منتصب بقوله: لا تزغ. قوله: {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أي: كائنة من عندك، و{من} لابتداء الغاية و{لدن} بفتح اللام، وضم الدال، وسكون النون، وفيه لغات أخر هذه أفصحها، وهو ظرف مكان، وقد يضاف إلى الزمان، وتنكير {رحمة} للتعظيم أي: رحمة عظيمة واسعة. وقوله: {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} تعليل للسؤال، أو لإعطاء المسئول.
وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس} أي: باعثهم ومحييهم بعد تفرّقهم {لِيَوْمٍ} هو يوم القيامة أي: لحساب يوم، أو لجزاء يوم، على تقدير حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي: في وقوعه ووقوع ما فيه من الحساب، والجزاء، وقد تقدم تفسير الريب، وجملة قوله: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} للتعليل لمضمون ما قبلها، أي: أن الوفاء بالوعد شأن الإله سبحانه، وخلفه يخالف الألوهية، كما أنها تنافيه، وتباينه.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: المحكمات ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما نؤمن به، ونعمل به. والمتشابهات منسوخه، ومقدّمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما نؤمن به، ولا نعمل به.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عباس قال في قوله: {مِنْهُ آيات محكمات} قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات: {قُلْ تَعَالَوْاْ} [الأنعام: 151] والآيتان بعدها. وفي رواية عنه أخرجها عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في قوله: {آيات محكمات} قال: من هنا {قُلْ تَعَالَوْاْ} إلى ثلاث آيات، ومن هنا {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} [الإسراء: 23] إلى ثلاث آيات بعدها. وأقول: رحم الله ابن عباس ما أقل جدوى هذا الكلام المنقول عنه. فإن تعيين ثلاث آيات، أو عشر، أو مائة من جميع آيات القرآن، ووصفها بأنها محكمة ليس تحته من الفائدة شيء، فالمحكمات هي أكثر القرآن على جميع الأقوال حتى على قوله المنقول عنه قريباً من أن المحكمات ناسخه، وحلاله الخ، فما معنى تعيين تلك الآيات من آخر سورة الأنعام؟.
وأخرج عبد بن حميد، عنه قال: المحكمات: الحلال والحرام، وللسلف أقوال كثيرة هي راجعة إلى ما قدّمنا في أوّل هذا البحث.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} يعني: أهل الشك، فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبسون، فلبس الله عليهم: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} قال: تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا الله.
وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود: {زَيْغٌ} قال: شك.
وفي الصحيحين، وغيرهما، عن عائشة قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} إلى قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} إلى قوله: {أُوْلُواْ الالباب} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عني، فاحذروهم» وفي لفظ: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذي سماهم الله، فاحذروهم» هذا لفظ البخاري، ولفظ ابن جرير، وغيره: «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، والذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فلا تجالسوهم».
وأخرج عبد بن حميد، وعبد الرزاق، وأحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ} قال: هم الخوارج.
وأخرج ابن جرير، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان الكتاب الأوّل ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا» وأخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود موقوفاً.
وأخرج الطبراني، عن عمر بن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود، فذكر نحوه، وأخرج البخاري في التاريخ عن علي مرفوعاً بإسناد ضعيف نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي داود في المصاحف، عن ابن مسعود نحوه.
وأخرج ابن جرير، وأبو يعلى، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر، ما عرفتم، فاعملوا به، وما جهلتم منه، فردوه إلى عالمه» وإسناده صحيح.
وأخرج البيهقي في الشعب، عن أبي هريرة مرفوعاً، وفيه: «واتبعوا المحكم وآمنوا بالمتشابه».
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، عن طاوس قال: كان ابن عباس يقرؤها: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَيَقُولُ الراسخون فِى العلم آمنا بِهِ} وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن الأعمش قال في قراءة عبد الله: وإن حقيقة تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي الشعثاء، وأبي نهيك قال: إنكم تصلون هذه الآية، وهي مقطوعة: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والرسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا.
وأخرج ابن جرير، عن عروة. قال: الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن عمر بن عبد العزيز نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، عن أبيّ قال: كتاب الله ما استبان، فاعمل به، وما اشتبه عليك، فآمِن به، وكله إلى عالمه.
وأخرج أيضاً، عن ابن مسعود قال: إن للقرآن مناراً، كمنار الطريق، فما عرفتم، فتمسكوا به، وما اشتبه عليكم، فذروه.
وأخرج أيضاً، عن معاذ نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس قال: تفسير القرآن على أربعة وجوه: تفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعذر الناس بجهالته من حلال، أو حرام، وتفسير تعرفه العرب بلغتها، وتفسير لا يعلم تأويله إلا الله، من ادعى علمه، فهو كذاب.
وأخرج ابن جرير عنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف: حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به، وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله، ومن ادّعى علمه سوى الله، فهو كاذب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه قال: أنا ممن يعلم تأويله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عطية العوفي عنه في قوله: {يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} نؤمن بالمحكم، وندين به، ونؤمن بالمتشابه، ولا ندين به، وهو من عند الله كله.
وأخرج الدارمي في مسنده، ونصر المقدسي في الحجة، عن سليمان بن يسار: أن رجلاً يقال له ضبيع قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن. فأرسل إليه عمر، وقد أعدّ له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله ضبيع، فقال: وأنا عبد الله عمر، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين، فضربه حتى دمى رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي.
وأخرجه الدارمي أيضاً من وجه آخر، وفيه: أنه ضربه ثلاث مرات يتركه في كل مرة حتى يبرأ، ثم يضربه.
وأخرج أصل القصة ابن عساكر في تاريخه، عن أنس.
وأخرج الدارمي، وابن عساكر: أن عمر كتب إلى أهل البصرة أن لا يجالسوا ضبيعاً، وقد أخرج هذه القصة جماعة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن أنس، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع، وأبي الدرداء؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم؟ فقال: «من برّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عفّ بطنه، وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم».
وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن يزيد الأزدي عن أنس مرفوعاً نحوه.
وأخرج أبو داود، والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجدال في القرآن كفر».
وأخرج نصر المقدسي في الحجة، عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن وراء حجرته قوم يتجادلون بالقرآن، فخرج محمرة وجنتاه، كأنما يقطران دماً، فقال: «يا قوم لا تجادلوا بالقرآن، فإنما ضل من كان قبلكم بجدالهم، إن القرآن لم ينزل، ليكذب بعضه بعضاً، ولكن نزل ليصدق بعضه بعضاً، فما كان من محكمه، فاعملوا به، وما كان من متشابهه، فآمنوا به».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي علي دينك، ثم قرأ: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} الآية».
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه عنها مرفوعاً نحوه بأطول منه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وابن مردويه، عن عائشة مرفوعاً نحوه.
وقد ورد نحوه من طرق أخر.
وأخرج ابن النجار في تاريخه في قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ} الآية. عن جعفر بن محمد الخلدي قال: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: «من قرأ هذه الآية على شيء ضاع منه ردّه الله عليه، ويقول بعد قراءتها: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيني وبين مالي إنك على كل شيء قدير».


المراد ب {الذين كفروا}: جنس الكفرة. وقيل: وفد نجران، وقيل: قريظة، وقيل: النضير، وقيل: مشركو العرب. وقرأ السلمي: {لن يُغني} بالتحتية، وقرأ الحسن بكون الياء الآخرة تخفيفاً. قوله: {مِنَ الله شَيْئاً} أي: من عذابه شيئاً من الإغناء، وقيل: إن كلمة من بمعنى عند، أي: لا تغني عند الله شيئاً قاله أبو عبيد، وقيل: هي بمعنى بدل. والمعنى: بدل رحمة الله، وهو بعيد. قوله: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار} الوقود: اسم للحطب، وقد تقدم الكلام عليه في سورة البقرة، أي: هم حطب جهنم الذي تسعر به، وهم: مبتدأ، ووقود خبره، والجملة خبر أولئك، أو هم ضمير فصل، وعلى التقديرين، فالجملة مستأنفة مقرّرة لقوله: {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم} الآية. وقرأ الحسن، ومجاهد، وطلحة بن مصرف {وَقُودُ} بضم الواو، وهو مصدر، وكذلك الوقود بفتح الواو في قراءة الجمهور يحتمل أن يكون اسماً للحطب، كما تقدم، فلا يحتاج إلى تقدير، ويحتمل أن يكون مصدراً؛ لأنه من المصادر التي تأتي على وزن الفعول، فتحتاج إلى تقدير، أي: هم أهل، وقود النار.
قوله: {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} الدأب: الاجتهاد، يقال دأب الرجل في عمله يدأب دأباً ودءوباً: إذا جدّ، واجتهد، والدائبان الليل، والنهار، والدأب: العادة، والشأن، ومنه قول امرئ القيس:
كدأبك من أمِّ الحُوَيِرِثِ قَبْلَها *** وَجَارَتها أمِّ الرَّبابِ بِمَأسَلِ
والمراد هنا: كعادة آل فرعون، وشأنهم، وحالهم، واختلفوا في الكاف، فقيل: هي في موضع رفع تقديره دأبهم كدأب آل فرعون مع موسى.
وقال الفراء: إن المعنى: كفرت العرب، ككفر آل فرعون. قال النحاس: لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة بكفروا، لأن كفروا داخلة في الصلة، وقيل: هي متعلقة بأخذهم الله، أي: أخذهم أخذه، كما أخذ آل فرعون، وقيل: هي متعلقة ب {لن تغني} أي: لم تغن عنهم غناء، كما لم تغن عن آل فرعون، وقيل: إن العامل فعل مقدر من لفظ الوقود، ويكون التشبيه في نفس الإحراق. قالوا: ويؤيده قوله تعالى: {اأدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]. {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46]، والقول الأوّل هو الذي قاله جمهور المحققين، ومنهم الأزهري. قوله: {والذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة، أي: وكدأب الذين من قبلهم. قوله: {كَذَّبُواْ بأياتنا فَأَخَذَهُمُ الله} يحتمل أن يريد الآيات المتلوّة، ويحتمل أن يريد الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية، ويصح إرادة الجميع. والجملة بيان، وتفسير لدأبهم، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من آل فرعون والذين من قبلهم على إضمار قد: أي دأب هؤلاء كدأب أولئك قد كذبوا الخ. وقوله: {بِذُنُوبِهِمْ} أي بسائر ذنوبهم التي من جملتها تكذيبهم.
قوله: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} قيل: هم اليهود، وقيل: هم مشركو مكة، وسيأتي بيان سبب نزول الآية. وقوله: {سَتُغْلَبُونَ} قريء بالفوقية، والتحتية، وكذلك {تُحْشَرُونَ}.
وقد صدق الله، وعده بقتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير، وفتح خيبر، وضرب الجزية على سائر اليهود، ولله الحمد. قوله: {وَبِئْسَ المهاد} يحتمل أن يكون من تمام القول الذي أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة تهويلاً، وتفظيعاً.
قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ} أي: علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم، وهذه الجملة جواب قسم محذوف، وهي: من تمام القول المأمور به لتقرير مضمون ما قبله، ولم يقل كانت؛ لأن التأنيث غير حقيقي.
وقال الفراء: إنه ذكر الفعل لأجل الفصل بينه، وبين الإسم بقوله: {لَكُمْ}. والمراد بالفئتين: المسلمون، والمشركون لما الْتقوا يوم بدر. قوله: {فِئَةٌ تقاتل فِى سَبِيلِ الله} قراءة الجمهور برفع {فئة}. وقرأ الحسن، ومجاهد {فئة} و{كافرة} بالخفض، فالرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف، أي: إحداهما فئة. وقوله: {تقاتل} في محل رفع على الصفة، والجرّ على البدل من قوله: {فِئَتَيْنِ}. وقوله: {وأخرى} أي: وفئة أخرى كافرة. وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما. قال ثعلب: هو على الحال، أي: التقتا مختلفتين، مؤمنة، وكافرة.
وقال الزجاج: النصب بتقدير أعني؛ وسميت الجماعة من الناس فئة؛ لأنه يفاء إليها: أي: يرجع إليها في وقت الشدة.
وقال الزجاج: الفئة: الفرقة مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف: إذا قطعته، ولا خلاف أن المراد بالفئتين هما: المقتتلتان في يوم بدر، وإنما وقع الخلاف في المخاطب بهذا الخطاب، فقيل: المخاطب بها: المؤمنون. وقيل: اليهود. وفائدة الخطاب للمؤمنين: تثبيت نفوسهم، وتشجيعها، وفائدته إذا كان مع اليهود عكس الفائدة المقصودة بخطاب المسلمين.
قوله: {يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ} قال أبو علي الفارسي: الرؤية في هذه الآية رؤية العين، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد، ويدل عليه قوله: {رَأْىَ العين} والمراد أنه يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين، أو مثلي عدد المسلمين، وهذا على قراءة الجمهور بالياء التحتية، وقرأ نافع بالفوقية. وقوله: {مّثْلَيْهِمْ} منتصب على الحال.
وقد ذهب الجمهور إلى أن فاعل ترون هم المؤمنون، والمفعول هم الكفار. والضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمشركين، أي: ترون أيها المسلمون المشركين مثلي ما هم عليه من العدد، وفيه بُعْد أن يكثر الله المشركين في أعين المؤمنين، وقد أخبرنا أنه قللهم في أعين المؤمنين، فيكون المعنى ترون أيها المسلمون المشركين مثليكم في العدد، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين، فأراهم إياهم مثلي عدتهم لتقوى أنفسهم.
وقد كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار، ويحتمل أن يكون الضمير في {مثليهم} للمسلمين، أي: ترون أيها المسلمون أنفسكم مثلي ما أنتم عليه من العدد لتقوى بذلك أنفسكم، وقد قال من ذهب إلى التفسير الأوّل- أعني: أن فاعل الرؤية المشركون، وأنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم- أنه لا يناقض هذا ما في سورة الأنفال من قوله تعالى: {وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44] بل قللوا أوّلا في أعينهم ليلاقوهم، ويجترئوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا. قوله: {رَأْىَ العين} مصدر مؤكد لقوله: {يَرَوْنَهُمْ} أي: رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها {والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء} أي: يقوّي من يشاء أن يقويه، ومن جملة ذلك تأييد أهل بدر بتلك الرؤية {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي: في رؤية القليل كثيراً {لَعِبْرَةً} فعلة من العبور، كالجلسة من الجلوس. والمرد الاتعاظ، والتنكير للتعظيم، أي: عبرة عظيمة، وموعظة جسيمة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} قال: كصنيع آل فرعون.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عنه قال كفعل.
وأخرج مثله أبو الشيخ، عن مجاهد.
وأخرج ابن جرير، عن الربيع قال: كسنتهم.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب، ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع قال: «يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً،» قالوا يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً كانوا غماراً لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله: {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} إلى قوله: {أُوْلِى الأبصار}.
وأخرج ابن جرير، وابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن عاصم بن عمر بن قتادة مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة قال: قال فنحاص اليهودي، وذكر نحوه.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ} عبرة، وتفكر.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تقاتل فِى سَبِيلِ الله} أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر {وأخرى كَافِرَةٌ} فئة قريش الكفار.
وأخرج عبد الرزاق أن هذه الآية نزلت في أهل بدر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ} يقول: قد كان لكم في هؤلاء عبرة، ومتفكر أيدهم الله، ونصرهم على عدوهم يوم بدر، كان المشركون تسعمائة وخمسين رجلاً، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً.
وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود في الآية قال: هذا يوم بدر نظرنا إلى المشركين، فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في الآية قال: أنزلت في التخفيف يوم بدر على المؤمنين كانوا يومئذ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وكان المشركون مثليهم ستمائة وستة وعشرين، فأيد الله المؤمنين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8